استوقفتني النتيجة التي أتت بها مقدمة البرنامج، ومفادها أن العرب انتشروا في البر والروم في البحر، واستندت إلى بيت شعرٍ قديم يقول: "البحر للروم والبر للعرب" وزادت على هذا أن البحار لم تكن بتلك الأهمية للعرب لأنها غير مذكورة بكثرة في أشعارهم وآدابهم القديمة. الشعر مهم لكل أمة من الأمم ولكن الاستناد إلى المستوى الأدبي وحده لمعرفة تاريخ وعلاقة كل أمة من الأمم (حديثًا وقديمًا) بشيء ما خطأ دارج.

علاقة العرب (والمسلمين) بالبحار لا يمكن أن نجدها في الشعر، بل في كتابات الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين، مثل الإدريسي وابن خرداذبه وابن بطوطة وابن الجبير وابن إياس. في كتاب الشريف الإدريسي "نزهقة المشتاق في اختراق الآفاق" يصف الإدريسي مجرى النيل وافتراقه في بلاد الحبشة ويصف منابعه. الحديث عن البحار ووصفها موجود بكثرة فابن بطوطة في رسالته يصف النيل: "إنه ليس في الدنيا نهر يسمى بحرًا غيره"؛ وفي تاريخ الإمبراطورية العربية كانت إحدى أهم مفاتيح الهيمنة العربية هي الهيمنة على تجارة المحيط الهندي بالكامل لفترة طويلة، أي حتى الغزوات البرتغالية ويكتب ابن إياس عن محاولة تسوية مع البرتغاليين وكتاب من ترجمان البلاط المصري للبرتغاليين: "بعدما زاد تعبث الفرنج بالسواحل وأخذ أموال التجار".

يتم الربط بين الرومان والبحار لأنَّ الإمبراطورية الرومانية هي الإمبراطورية الوحيدة التي حكمت البحر المتوسط لوحدها بدون شريك، وقد خاض العرب صراعًا طويلًا على المتوسط وحولوه إلى بحيرة إسلامية حتى غزوات الصليبيين والنورمانديين، حينها توجه العرب إلى المحيط الهندي حيث حظي العرب بهيمنة تامة على المحيط الهندي لعقود وعلى حصة كبيرة من المتوسط وكذلك طرق التجارة البرية.

يكتب الجغرافي المصري جمال حمدان عن هذا: "هذا في معنى حقيقي جدًا هو هلال الإسلام وفي قلبه ونكاد نقول نجمته يستقر المحيط الهندي. الذي هو منطقيًا محيط الإسلام. وإذا كان الإسلام قد فقد البحر المتوسط كبحيرة إسلامية فقد كسب المحيط الهندي الذي أصبح المحيط الهندي الذي أصبح البحر المتوسط الجديد في العالم الإسلامي، والحضارمة والعمانيون إغريقه وبنادقته إن لم يكونوا رومانه".

من جهته يرفض جمال واكيم الربط بين العرب/الإسلام والصحراء ويحاجج بأن معظم المسلمين موجودون في السواحل.

الاستناد إلى المستوى الأدبي وحده (رغم أهميته) قد لا يستوي مع الحقيقة التاريخية كون المستوى الأدبي يحظى باستقلالية كبيرة عن المجتمع الفعلي والواقع المعاش، وأحيانًا يخضع لمخيال صاحبه غير المفصول عن لحظته التاريخية ولكنه قد يجيب على إشكاليات غير موجودة ويطرح أسئلة ويقدم أجوبة لا تلاءم الواقع الفعلي؛ مثلًا عندما قال المتنبي "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم" في حينه لم تضحك من جهلنا الأمم.

كتجربة شخصية، خطر لي ذات مرة أن أبحث عن اسم فلسطين مستقلًا عن بلاد الشام في الكتابات التاريخية وبالفعل وجدته في تاريخ الممالك القديمة والتقسيمات الإدارية المتعاقبة منذ الرومان حتى الانتداب البريطاني (أي منذ تعميم اسم واحد لهذه الأرض وتوحيدها إداريًا) ولكن لم أجده في بيت شعري قديم مستقلًا عن بلاد الشام (قد يكون موجودًا وأنا لم أتوصل إليه).

ولكن تبين لي أن الإشكالية الّتي بحثت فيها هي إشكالية وليدة عصرنا وليسَت بنت ذلك الزمن.. واليوم من الواجب توكيد الفلسطنة مستقلة عن الشام، أمّا في حينه فلم تكن كذلك!